وزیر الخارجیه الإیرانی الأسبق: لقد حان وقت التغییر النموذجی

وجاء فی نص مقال وزیر الخارجیه الأسبق للجمهوریه الإسلامیه الإیرانیه:

یمر غرب آسیا بمنعطف خطیر. إن المآسی المستمره فی غزه، والعدوان الأخیر على إیران الذی صدّته مقاومه شعبنا وقواتنا المسلحه، واستمرار زعزعه الاستقرار فی سوریا، تدل بوضوح أن التهدید الوجودی المزعوم الوحید لرئیس وزراء الکیان الصهیونی "بنیامین نتنیاهو" وداعمیه فی العالم هو فی الواقع "السلام والهدوء".

وإن الدفاع القوی ضروری، لکن الحل الدائم یتطلب مبادره دبلوماسیه جریئه وتغییرا تاریخیاً لإیران والمنطقه: تحول من نموذج تهدید متجذر إلى نموذج یمکّن ویعزز الإمکانیه ویتضمن هذا التحول ما یلی: توسیع العلاقات مع الجیران ودول الجنوب العالمی، وإنشاء شراکه إقلیمیه جدیده بین المسلمین فی غرب آسیا، واستئناف الحوار مع أوروبا والولایات المتحده.

ولقد ظلت دول المنطقه عالقه فی دوامه الصراع والفرص الضائعه لفتره طویله، ویتطلب بناء مستقبل مختلف بصیره وشجاعه وقرارا واعیا بالخروج عن الحتمیه التاریخیه والاتجاه نحو الجبر،ویبدأ هذا التغییر بالنسبه لإیران، من الداخل ویمتد إلى محیطه.

وتمتلک إیران القدره على تحقیق هذا التحول الحاسم من نهج یرکز على مواجهه التهدیدات المستمره إلى نهج یرکز على استغلال الفرص بإثباتها أنها لیست فریسه سهله، وأنها قادره على الصمود أمام دولتین معتدین مسلحتین بالأسلحه النوویه.

وهذا التحول لیس ممکنًا فحسب، بل یصب فی مصلحه إیران والمنطقه والمجتمع الدولی بشکل کبیر ویتطلب تحقیقه إراده داخلیه حازمه وعدم تدخل خارجی؛فالدافع وراء عدم التدخل لیس بالضروره الأخلاق أو القانون الدولی، بل المصلحه الوطنیه.

وتکمن أعظم إمکانات إیران وثرواتها فی شعبها وتشهد آلاف السنین من التاریخ على صموده الاستثنائی ولقد احتل الغزاهو المعتدین، الأراضی الإیرانیه، لکنهم لطالما اندمجوا فی ثقافه إیران العریقه، ولم یتمکنوا قط من فرض قیمهم على الشعب الإیرانی.

وهذا الصمود هو العامل الحاسم الذی أحبط خصوما یبدو أنهم متفوقون، بدءًا من غزو العراق عام 1980 (بدعم من القوى العالمیه) ووصولًا إلى الشر الأخیر لنتنیاهو والرئیس الأمریکی دونالد ترامب وقد فشلت أربعه عقود من "الضغط الأقصى" والعقوبات المشلوله فی تحقیق أهدافها.

ورغم القیود العالمیه غیر المسبوقه - من قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحده إلى القیود المفروضه على التصدیر والتی تهدف عمدا إلى منع التقدم التکنولوجی لإیران - فقد حقق الشعب الإیرانی تقدمًا علمیا وتکنولوجیا محلیا، لا سیما فی مجالی الدفاع والطاقه النوویه. لذلک، لا یستحق الشعب الإیرانی القیود والتقیید؛بل هو أعظم ثروه للبلاد، ویجب تمکینه ورعایته وإعطائه فرصه للازدهار.

وإن الرکیزه الحیویه الثانیه لنموذج الفرصه والإمکانیه بالنسبه لإیران تتمثل فی المنطقه المحیطه بها. تقع إیران، بحدودها مع خمس عشره دوله، عند مفترق طرق أوراسی فرید. والأهم من ذلک، أن المنطقه تربطها روابط تاریخیه وثقافیه عمیقه ومتینه، نسجها الشعراء والمتصوفون والفلاسفه والعلماء الإیرانیون على مر القرون وظلت هذه الروابط ثابته وصامده، على الرغم من الغزوات والاعتداءات والاضطرابات وتغیر الإمبراطوریات.

ومع ذلک، لا یزال التعاون الإقلیمی الحقیقی بعید المنال وساهمت فی صیاغه مبادرات لطالما أحبطت بنموذج من الشک والترهیب خلال عقود من عملی الدبلوماسی، بدءًا من مقترح أمن الخلیج الفارسی خلال الحرب العراقیه الإیرانیه، مرورًا بإعلان التعاون مع الجیران على الضفه الجنوبیه للخلیج الفارسی بعد اعتداء العراق علی الکویت عام 1990، ومبادرات لاحقه مثل منتدى الحوار الإقلیمی، واتفاقیه عدم الاعتداء، وحمله هرمز للسلام (مشروع الأمل)، و"منتدى حوار المسلمین فی غرب آسیا"، ومؤخرًا شبکه الشرق الأوسط للبحث والتطویر النووی - قوبلت جمیع هذه المبادرات بالتشکیک نتیجه انعدام الثقه المتبادل.

لکن التصعیدات الإسرائیلیه الأخیره خلقت شعورًا جدیدًا بالضعف المشترک ووقوع ضرر مشترک فی المنطقه، وهناک فرصه حیویه الآن ویجب على إیران، إلى جانب البحرین ومصر والعراق والأردن والکویت وعُمان وقطر والمملکه العربیه السعودیه وسوریا وترکیا والإمارات العربیه المتحده والیمن - وربما تمتد إلى باکستان وآسیا الوسطى والقوقاز - اغتنام هذه الفرصه ویمکننا صیاغه میثاق جدید بالتحول الاستراتیجی من التشرذم إلى التآزر تحت رعایه الأمم المتحده ویمکن لممرات الطاقه المشترکه، والأطر القویه لحظر الانتشار (النووی) والتعاون النووی، والتعاون الاقتصادی، والوحده الثقافیه، أن تصبح محرکات للازدهار المشترک.

ومن منظور نموذج الفرص والإمکانیه، یمکن لإیران، وحتى روسیا وترکیا، أن تنظرا إلى الاتفاق الأخیر بین أذربیجان وأرمینیا فی واشنطن باعتباره فرصه، ولیس تهدیداً؛ فرصه لإحیاء المقترح السابق للتعاون فی مجال النقل العابر فی القوقاز بین إیران وروسیا وترکیا، إلى جانب أرمینیا وأذربیجان وجورجیا وتوفر الاتفاقیه الجدیده إطارا عالمیا تعزز جدوى واستدامه مبادرتنا الإقلیمیه لعام 2019. وفی الوقت نفسه، ستتیح فرصا استثماریه لا مثیل لها للقطاع الخاص فی الولایات المتحده ودول أخری.

ربما بسبب خیبه أمل إیران من تجارب الماضی، فإن الرکیزه الثالثه للتحول النموذجی، أی الدبلوماسیه العالمیه، تعد الأکثر تحدیا. ومع ذلک، أعتقد اعتقادا راسخا أن لإیران والمجتمع الدولی مصلحه وجودیه مشترکه فی ترک تلک التجارب وراءهما وبناء مستقبل مختلف.

وایران بصفتها عضوا مؤسسا للأمم المتحده، کانت رائده فی مبادرات بارزه: اقتراح عام 1974 لإنشاء منطقه خالیه من الأسلحه النوویه فی الشرق الأوسط، ومبادره "حوار الحضارات" عام 1997، وخطه العمل المشترک الشامله عام 2015. وللأسف، دأبت القوى العالمیه الکبرى على إحباط هذه المبادرات الإیرانیه ذات النوایا والأفکار الحسنه.

النمط التاریخی واضح: رد الفعل العدوانی للغرب تجاه تأمیم النفط الإیرانی عام 1951، والذی أدى إلى انقلاب عام 1953؛ ودعمه لعدوان صدام حسین على إیران عام 1980؛ وأفعاله التی سمحت لإسرائیل بامتلاک مئات الرؤوس النوویه؛ وتوجیه الاتهامات إلی إیران وتصنیفها ضمن "محور الشر" عام 2002، رغم تعاونها بعد أحداث 11 سبتمبر؛وحمله أکاذیب متواصله ضد البرنامج النووی السلمی الإیرانی والأغرب من ذلک، أن إسرائیل، التی رفضت التوقیع على معاهده حظر الانتشار النووی، والمعروفه بامتلاکها ترسانه نوویه ضخمه غیر مشروعه، هی من تابعت هذه الحمله.

ومصیر خطه العمل المشترک الشامله هو رمز لعدم الوفاء بالوعود الدبلوماسیه وقد حظی الاتفاق بإشاده عالمیه باعتباره انتصارا دبلوماسیا فی عام 2015، إلا أن قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق بعد ثلاث سنوات أضر بشده بالثقه فی الدبلوماسیه داخل إیران. فإن الخطوه الأوروبیه الأخیره لتفعیل آلیه فضّ النزاعات فی خطه العمل المشترک الشامله، فی ظل الاعتداءات الإسرائیلیه على المنشآت الإیرانیه بالإضافه إلى العقوبات الجائره والساحقه، تعد نفاقا عمیقا.

وتوانت أوروبا، بشکل منهجی، عن الوفاء بالتزاماتها بموجب خطه العمل المشترک الشامله وقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحده لمده سبع سنوات.

وانهار الاتفاق الأصلی - تطبیع العلاقات الاقتصادیه مقابل التزامات نوویه مؤکده - بانسحاب الولایات المتحده من خطه العمل المشترک الشامله وتجلى عجز أوروبا أو عدم رغبتها فی تنفیذ التزاماتها حتى فی الآلیات الاقتصادیه البدائیه، مثل الآلیه التی اقترحتها بنفسها والمسماه "إنستکس" - وهی أداه للالتفاف على العقوبات الأمریکیه.

وقامت إیران بتفعیل الإجراءات التعویضیه لخطه العمل المشترک الشامله قانونیًا فی ظل عدم امتثال الولایات المتحده وثلاث دول أوروبیه - فرنسا وألمانیا وبریطانیا - منذ (2017-2021) وأکدت ثلاث دول أوروبیه فی یونیو/حزیران صراحهً الاعتداءات العسکریه الإسرائیلیه على إیران بدلا من الالتزام بالدبلوماسیه؛ حتى أن المستشار الألمانی فریدریش میرتس صرح بأن الکیان الإسرائیلی یقوم بـ"عمل قذر" نیابه عن الغرب وإن تأکید أوروبا للحرب، ثم لجوئها إلى آلیه فض النزاعات الدبلوماسیه للاتفاق النووی - لنفس الأغراض التی فشلت الحرب فی تحقیقها - قد زاد من تقویض ثقه إیران بالدبلوماسیه.

وبالنظر إلى هذا السجل التاریخی المریر، فإن إقناع الشعب والحکومه فی ایران بتبنی الدبلوماسیه کإمکانیه وفرصه سیشکل تحدیا کبیرا لکن البدیل - مسار الحروب التی لا تنتهی - سیؤدی بلا شک إلى انهیار النظام الإقلیمی، وتنامی التطرف، وفوضى عارمه ستبتلع غرب آسیا وما وراءها ویهدد هذا المسار بإغراق الولایات المتحده والغرب فی مستنقع ذی أبعاد تاریخیه.

وللولایات المتحده وأوروبا - ولیس إیران فحسب - مصلحه وجودیه فی تشجیع التحول النموذجی هذا، وإنهم لقد أغلقوا باب الدبلوماسیه على أرض الواقع باختیارهم الحرب فی خضم المفاوضات ویقع على عاتقهم الآن عبء تغییر المسار، إذا کانوا یتوقعون ردا متبادلا من إیران وستجنی إیران أیضا فوائد جمه، وستتجنب کوارث جسیمه من خلال الانخراط فی حوار متعدد الجوانب، استشرافی، وموجه نحو النتائج،ویمکن أن یشمل المسار المستقبلی إنشاء شبکه إقلیمیه لمنع الانتشار والتعاون النووی السلمی، وربما یکون ذلک مصحوبا باتفاقیه عدم اعتداء بین إیران والولایات المتحده.

ولا یمکننا تجاهل الماضی، ویجب ألا نتوقف عن التعلم منه لکن یجب أن نتجنب الوقوع فی أسر إخفاقات الماضی، وإلا فإننا نحکم على أنفسنا بتکرار دوره لا نهایه لها من الکوارث.

ویزدهر دعاه الحرب بإغلاق کل نافذه للدبلوماسیه ویجب أن نحرمهم من فرصه ترسیخ نموذج التهدید المدمر وإخماد الأمل، ولقد حان وقت الإختیار ، الخیار أمام إیران والمنطقه والقوى العالمیه واضح: إما تکرار الماضی الکارثی، أو التحلی بالشجاعه لبناء المستقبل معًا. الآن هو الوقت المناسب لإحداث تحول نموذجی.